الكتاب: أوهام شعراء العرب في المعاني المؤلف: أحمد بن إسماعيل بن محمد تيمور (المتوفى: 1348هـ) [الكتاب مرقم آليا غير موافق للمطبوع] |
بسم الله الرحمن الرحيم (1/1)
تمهيد
إذا قيل: إن العربي لا يخطأ، فالمراد لا يخطأ في اللفظ للملكة اللسانية الراسخة فيه، وأما في المعاني فلم يقل أحد بعصمة جنانه، كما قالوا بعصمة لسانه، بل هو خلاف ما صرح به أئمة العربية، ألا تراهم كيف خطأوا أبا قيس بن رفاعة في قوله:
منا الذي هو ما إن طر شاربه ... والعانسون ومنا المرد والشيب
لأنه لم يحسن التقسيم في البيت.
وقد اعترض ابن هشام في المغنى على ذكره المرد بعد قوله: ما طر شاربه، إذ الذي لم ينبت شاربه أمرد، فكأنه قال: منا الأمرد، ومنا المرد، ثم قال: ((والبيت عندي فاسد التقسيم بغير هذا، ألا ترى أن العانسين، وهم الذين لم يتزوجوا، لا يناسبون بقية الأقسام، وإنما العرب محميون عن الخطأ في الألفاظ دون المعاني)) انتهى.
وقد حاول بعض شراحه تصويب ما في البيت بتقدير أن أصله: منا العانسون والمتزوجون ومنا المرد والشيب، وذكروا فيه أوجهاً أخرى لا تخلو من مثل هذا التكلف.
وقال الجاحظ في كتاب الحيوان: ((وليس الأعرابي بقدوة إلا في الجر والنصب والرفع وفي الأسماء، وأما غير ذلك فقد يخطئ فيه ويصيب)) . والنصوص على ذلك كثيرة لا تختلف إلا في المبنى فلا حاجة لذكرها، وقد بحثنا فيما وصل إلينا من هذه الأوهام، وتفحصنا أسبابها، فرأيناها ترجع إلى الأقسام الآتية:
القسم الأول
فمن أسباب الوهم في المعاني جهل الشاعر بما يذكره لبعده عنه، فتراه يأتي به على غير حقيقته، ويضعه في غير موضعه، أو يبهم في وصفه فلا يدنيه منك ولا يبعده، كالحضري الذي لم يسبق له التبدي، والبدوي الذي لم يتحضر، فإنهما قلما يستطيع أحدهما أن يذكر ما عند الآخر فيصيب فيه، أو يصفه فيحسن الإفصاح عنه لأنه إنما يذكر ما لم يعرفه، ولم يره إلا بسمعه. حكى صاحب الأغاني عن الكميت أنه قال: لما قدم ذو الرمة أتيته فقلت: إني قد قلت قصيدة عارضت فيها قصيدتك:
(ما بال عينك منها الماء ينسكب)
فقلت:
هل أنت عن طلب الأيفاع منقلبُ ... أم كيف يحسن من ذي الشيبة اللعب؟
حتى أنشدته إياها، فقال لي: ويحك! إنك لتقول قولاً ما يقدر إنسان أن يقول لك: أصبت ولا أخطأت، وذلك أنك تصف الشيء فلا تجئ به، ولا تقع بعيداً عنه، بل تقع قريباً. قلت له: أوتدري لم ذلك؟ قال: لا، قلت: لأنك تصف شيئاً رأيته بعينك، وأنا أصف شيئاً وصف لي، وليست المعاينة كالوصف. قال: فسكت. انتهى.
ويروى: أن الكميت كانت له جدتان أدركتا الجاهلية، فكانتا تصفان له البادية وأمورها، وتخبرانه بأخبار الناس في الجاهلية، فإذا شك في شعر أو خبر عرضه عليهما فتخبرانه، فمن هناك كان علمه.
قلنا: وقد رأيت كيف لم يغنه وصف الجدتين شيئاً، فوقع فيما أحتاج إلى الاعتذار منه. وليت شعري أين عزبتا عنه لما نظم قصيدته:
(أبت هذه النفس إلا ادكاراً)
فقال فيها:
إذا ما الهجارس غنيها ... يجاوبن بالفوات الوبارا
وقال:
كأن الغطامط من غليها ... أراجيز أسلم تهجو غفارا
فكانتا تخبرانه بأن الوبار لا تسكن الفلوات، وبأن أسلم ما هجت غفاراً قط فتنجيانه من انتقاد نصيب.
ومثل هذا الحضري في وصفه ما لم يره من أمور البادية، كمثل ذلك البدوي الذي سمع بأن الرقاق والفستق من مأكول الحضر، وأراد وصف جارية بالتبدي فقال:
دسنية لم تأكل المرفقا ... ولم تذق من البقول الفستقا
وعذره أنه لم يعرف الفستق، وإنما سمع به فظنه من البقول، وهو ثمر شجرة. قال شارح القاموس: ((وتمحل بعضهم فقال: إنما هو النقول بالنون قال الصاغاتي: ولكن الرواية بالباء لا غير)) انتهى.
ولا ندري ما الذي كان يأتينا به في الرقاق لو اتسع له المجال في البيت.
ولو أنا قدرنا عكس هذه الحالة وأرينا هذا الأعرابي الرقاق والفستق قبل أن نخبره بهما لكان حقاً علينا أن نعذره كما عذرناه أولاً إذا رأيناه يعدل عن حقيقتهما إلى ما يصوره ظنه فيهما كما وقع للعرب في وقعة أليس لما استولوا على ما في معسكر الفرس، فجعل من لم ير الرقاق منهم يقول: ما هذه الرقاع البيض على ما حكاه ابن الأثير في الكامل.