الكتاب: حادي الأظعان النجدية إلى الديار المصرية المؤلف: أبو الفضل محب الدين محمد بن أبى بكر تقى الدين بن داود المحبى الحموى الدمشقي الحنفي (المتوفى: 1016هـ) [الكتاب مرقم آليا غير موافق للمطبوع] |
نص الكتاب (1/1)
بسم الله الرحمن الرحيم
وبه ثقتي
أن أحلى ما تنطق به ألسنة الأقلام، وأولى ما تتحلى به أسماع ذووي الأفهام، حمد الله سبحانه على نعمه المتوافرة، وشكر واهب المنن على آلائه المتوالية المتواترة، والصلاة والسلام على سيدنا محمد المخصوص بالكرامة، وعلى آله ومن صحبه في السفر والإقامة، والتابعين لهم بأحسن سبيل وأقوم طريق، ومن تبعهم بإحسان وتصديق، ما حن غريب إلى أوطانه، وجذبته دواعي أشواقه إلى أحبابه وإخوانه آمين.
وبعد: فقد قصدت أن أثبت في هذه الاوراق رحلتي إلى الديار المصرية، صحبة قاضي قضاتها صاحب النفس القدسية، والخصال الملكية، شيخ مشايخ الغسلام، وملك العلماء الأعلام، فخر الموالي المدققين، وصدر الأفاضل المحققين، شمس الملة والدنيا والدين، الشهير بجوي زاده أعطاه الله تعالى في الدارين مراده، ولا زال بابه الشريف محط رحال الأفاضل، وعتبتع ملتثم شفاه الأماثل. وذلك أني لما امتزجت بخدمته الشريفة امتزاج الماء بالراح، وتقويت بعنايته تقوي الأشباح بالأرواح، وما ذلك إلا أن لحمة الأدب لما ألفت شملي ألفه النسب، تعلقت برفيع جنابه لخصائص آدابه وتشرفت بصحبته وخدمة أعتابه، مع علمي بما قيل: ان السفر ينتج الظفر، ومعاقرة الوطن تعقر الفطن، وتحقر من قطن، فما خبر كنه حالي كان يميناً لشمالي، وصحبني معه إلى المحمية القاهرة، وأسدى إلي ما أعجز عن شكره من نعمه المتوافرة:
أذاقني العيش الذي أبتغي ... وبلغني الحظ الذي أتمناه
وعلمني كيف المدائح فعله ... وما كنت أدري ما المدائح لولاه
وشاركني في المرتع والمربع، وأحلني محل الأنملة من الأصبع
وحقق آمالي وقرب مجلسي ... وأرشفني كأس النوال مروقا
وقيدني بالمكرمات، أما ترى ... لساني له بالشكر أصبح مطلقا
وكان في ذلك الأثناء قد اتصل بالمسامع الشريفة، وأنهي إلى المواقف العالية المنيفة، أن طائفة النصارى قد جددوا شيئاً في الكنيسة الكائنة بالقدس الشريف، ووردت الأوامر الكريمة لمولانا يتوجها للنظر في ذلك بنفسهما الكريمة، ويفتشا على الكنيسة المذكورة وما زاده الكفار على أبنيتها القديمة. فاقتضى الحال أيضاً توجه مولانا المفتي المشار إليه، أسبغ الله تعالى نعمه عليه، للتفتيش على الكنيسة المذكورة والكشف عليها، امتثالاً للأوامر الشريفة إليها.
وكان ابتداء سفرنا المبارك من دمشق الشام، يوم الأثنين ثامن عشر شهر شعبان سنة ثمان وسبعين وتسعمائة أحسن الله تعالى لها الختام. وفارقنا تلك الأوطان، ولكن بالأبدان، وخلفنا القلب مرتهناً عند من فارقناه فيها من أفاضل الأخوان، ولله در القائل:
لي في الشام بقية خلفتها ... أودعتها يوم الفراق مودعي
وأظنها لا بل يقينا أنها ... قلبي فأني لا أرى قلبي معي
ثم سرنا في ظل هذا المولى المشار إليه، أسبغ الله تعالى نعمه عليه، منشرحي الصدور مصادفين من بره ولطفه ما يوجب غاية السرور، مع أصحاب كالنجوم الزواهر، بل أحباب كالبدور الأزاهر، منتظمين كنجوم الجوزاء، والجملة المتناسبة الأجزاء:
ما في الصحاب وقد بانت حمولهم ... إلا محب له في الركب محبوب
كأنما يوسف في كل مرحلة ... والحي في كل بيت فيهيعقوب
وما كنا نقطع وادياً، ولا نشهد نادياً، إلا ونتجاذب طرف الأناشيد، ونتوارد أطراف الأناشيد:
أخذنا بأطراف الأحاديث بيننا ... وسالتبأعناق المطي الأباطح
وكان مولانا بلغه الله تعالى غاية الآمال، يجل حضرة المفتي المشار إليه غاية الإجلال، وفي غالب الطريق يجلسه في المحفة مكانه، وكان له عنده من زيادة التعظيم مكانة، على مقتضى ما جبله الله تعالى من لطف الأخلاق، وسلامة الطبع التي والله ما أتصف بها أحدٌ سواه على الإطلاق، وتهذيب نفس شريفة ولكن أي تهذيب، وإفراط تواضع وخلق عجيب:
زادوه تعظيماً فزاد تواضعاً ... الله أكبر هكذا البشر السوي
ولعمري هو المعني بقول الشاعر:
إمام رست للعلم في أرض صدره ... جبال جبال الأرض في جنبها قف
تفكره علم ومنطقه حكم ... وباطنه دين وظاهره ظرف