الكتاب: نزهة الأبصار بطرائف الأخبار والأشعار المؤلف: عبد الرحمن بن عبد الله بن أحمد بن درهم (المتوفى: 1362هـ) الناشر: دار العباد - بيروت [الكتاب مرقم آليا غير موافق للمطبوع] |
شعر (1/1)
أبي تمام
قال أبو الفرج: هو حبيب بن أوس الطائي ومنشؤه منبح بقرية منها يقال لها: جاسم. شاعر مطبوع لطيف الفطنة دقيق لمعاني غواص على ما يستصعب منها ويعسر متناوله على غيره والسليم من شعره لا يتعلق به أحد. ومن الناس من يتعصب له ويفضله على جميع الشعراء من سالف وخالف، وقوم يعتمدون الرديء من شعره فينشرونه ويطوون محاسنه. وليست إساءة من أساء في القليل وأحسن في الكثير مسقطة إحسان، والتوسط في كل شيء أجمل والحق أحق أن يتبع وقد فضل أبا تمام من الرؤساء والكبراء والشعراء من لا يشق الطاعنون عليه غباره، ولا يدكون وإن وجدوا آثاره. وروي أن محمد بن الزيات كان يقول: أشعر الناس طراً الذي قول يعني أبا تمام:
وما أبالي وخير القول أصدقه ... حقنتَ لي ماءَ وجهي أو حقنتَ دمي
وسئل إبراهيم بن العباس من أشعر أهل زماننا؟ فقال: الذي يقول يعني أبا تمام:
مطر أبوكَ أبو أهلة وائلِ ... ملأ البسيطة عدةً وعديدا
نَسَبٌ كلأنَّ ليه من شمس الضحى ... نوراً ومن فلق الصباح عمودا
قال أبو الفرج: قدم عمارة بن عقيل بغداد فاجتمع الناس إليه فكتبوا شعره وشعر أبيه وعرضوا عليه الأشعار فقال بعضهم ها هنا شاعر يزعم أنه أشعر الناس طراً فقال: أنشدوني من قوله فأنشدوه:
غدت تستجيرُ الدمعَ خوف نوى غدِ ... وعادَ قتاداً عندها كلُّ مرقدِ
وأنقذها من غمرة الموتٍ أنه ... صُدودُ فراقٍ لا صُدود تعمد
فأجرى لها الإشفاقُ دمعاً مورداً ... من الدم يجري فوق خدٍّ مورد
هي البدر يكفيها تودُّد وجهها ... إلى كلّ من لاقت وإن لم تودَّد
ثم قطع الإنشاد فقال عمارة زدنا من هذا فوصل إنشاده فقال:
ولكنّني لم أحو وفراً مَجمعاً ... ففزتُ به إلاّ بشملِ مبدد
ولم تعطني الأيام نوماً مسكناً ... ألذُّ به إلا بنومِ مُشرَّد
فقال عمارة لله دره لقد تقدم في هذا من سبقه إليه على كثرة القول فيه حتى حبب الاغتراب هيه فأنشده:
وطولُ مُقام المرء في الحي مخلقٌ ... لديباجتيهِ فاغتربْ تتجدد
فإني رأيت الشمسَ زيدت محبةً ... إلى الناس إن ليست عليهم بسرمد
فقال عمارة كمل والله لئن كان الشعر بجودة اللفظ وحسن المعاني واطراد المراد واتساق الكلام فإن صاحبكم هذا أشعر الناس. وكان علي بن الجهم يصف أبا تمام ويفضله فقال له رجل والله لو كان أبو تمام أخاك ما زدت على مدحك هذا فقال إن لم يكن أخاً بالنسب فإنه أخ بالأدب والمودة أما سمعت ما خاطبني به حيث يقول:
إن يُكِد مطرّفُ الإخاء فإننا ... تَغدو ونَسري في إخاءٍ تالد
أو يختلف ماءُ الوصال فماؤنا ... عذبٌ تحدّرَ من غمام واحد
أو يفترقْ نسبٌ يؤلف بيننا ... أدبٌ أقمناهُ مقامَ الوالد
وكان محمد بن حازم يفضل أبا تمام ويقدمه ويقول لو لم يقل إلا مرثيته التي أولها:
أصمّد بك الناعي وإن كان أسمعا ... وأصبح مغنى الجودِ بعدكَ بلقعا
وقوله:
لو يقدرونَ مشوا على وجناتهم ... وجباههم فضلاً عن الأقدام
لكفاه، وقال عبيد الله بن عبد الله بن طاهر كان عمارة بن عقيل عندنا يوماً فسمع مؤدباً كان لولد أخي يرويهم قصيدة أبي تمام:
الحقُّ أبلج والسيوفُ عَوار ... فحذارِ من أسد العرين حذارِ
فلما بلغ قوله:
سود اللباس كأنما نسجت لهم ... أيدي السموم مدارعاً من قارِ
بكروا وأسروا في متون ضوامرٍ ... قيدَت لهم من مربط النجّار
لا يبرحون ومن رآهم خالهم ... أبداً على سَفرٍ من الإسفار
فقال عمارة لله دره ما يعتمد معنى إلا أصاب أحسنه كأنه موقوف عليه. قال إبراهيم بن العباس ما تكلمت في مكاتبتي إلا على ما جاش به صدري إلا أني قد استحسنت قول أبي تمام:
إذا مارقٌ بالغدرِ حاول غدرةً ... فذاك حريٌّ أن تئيم حلائله
فإن باشر الإصحارَ فالبيض، والقنا ... قراه وأحواضُ المنايا مناهله
وإن يبنِ حيطاناً عليه فإنما ... أولئك عُقالاتُه لا معاقله
وإلا فاعلمهُ بأنك ساخطٌ ... ودعه فإنَّ الخوف لا شك قاتله