الكتاب: البديع في وصف الربيع المؤلف: أبو الوليد إسماعيل بن محمد بن عامر بن حبيب الحميري (المتوفى: نحو 440هـ) [الكتاب مرقم آليا غير موافق للمطبوع] |
المقدمة (1/1)
بسم الله الرحمن الرحيم
صلى الله على سيدنا ومولانا محمد وآله وصحبه وسلم. قال أبو الوليد إسماعيل بن محمد بن عامر رحمة الله تعالى ورضوانه عليه: أما بعد حمد الله على فضله المتناهي، والصلاة والسلام على خاتم رسله وناهج سبله، فإن أحق الأشياء بالتأليف، وأولاها بالتصنيف ما غفل عنه المؤلفون، ولم يعن به المصنفون مما تأنس النفوس إليه، وتلقاه بالحرص عليه. وفصل الربيع آرج وأبهج، وآنس وأنفس، وأبدع وأرفع من أن أحد حسن ذاته أو أعد بديع صفاته. وحسبي بما يعلم الكل منها، ويخبر به الجميع عنها، شهيداً لما نقلته، دليلاً على ما قلته، وهو مع هذه الصفات الرائقة، والسمات الشائقة، والآلات الفائقة، لم يعن بتأليفه أحد، ولا انفرد لتصنيفه منفرد.
قال مؤلفه أبو الوليد رحمة الله عليه: فلما رأيت ذلك جمعت هذا الكتاب مضمناً ذلك الباب، ولست أودعه إلا ما أذكره لأهل الأندلس خاصة في هذا المعنى، إذ أوصافهم لم تتكرر على الأسماع، ولا كثر امتزاجها بالطباع، فتردها شيقة، وترودها تيقة، وإنما ذلك لتضييع أهل بلدهم لأكثرها، وغفلتهم عن جلها إنكاراً لفضلها مدة بقاء أهلها، فإذا انقرضوا تأسفوا بقدر ما كانوا تعسفوا، وحينئذ لا يجدون إلا قليلاً يغيب في كثيرها، وثماداً يفيض عند بحورها، ولعمري إن هذه العلة مما صححت استغرابها، وأكدت استحسانها واستعذابها.
وأما أشعار المشرق، فقد كثر الوقوف عليها، والنظر إليها، حتى ما تميل نحوها النفوس، ولا يروقها منها العلق النفيس، مع أني أستغني عنها ولا أحوج إلى ذكرها بما أذكره للأندلسيين من النثر المبتدع، والنظم المخترع، وأكثر ذلك لأهل عصري إذ لم تغب نوادرهم عن ذكري.
وأما من بعد عصره، وكم فيهم من جليل قدره، فقلما أوردت لهم شيئاً للعلة التي تقدم ذكري لها من إهمالها وتضييعها.
ولأهل المشرق في تأليف أشعار شعرائهم، وتدوين أخبار علمائهم، الفضل علينا والسبق لنا، حتى لقد يجمعون خشينها مع حسنها، ويضيفون لحنها إلى لحنها، لا قلة ميز بها بل تحرجاً عن تركها. ولو جرى أهل الأندلس على تلك الطريقة لأوردت على الحقيقة أمثال ما أوردت وأضعاف ما اجتلبت. لكن أهل المشرق على تأليفهم لأشعارهم، وتثقيفهم لأخبارهم مذ تكلمت العرب بكلامها، وشغلت بنثرها ونظامها إلى هلم جرا..، لا يجدون لأنفسهم من التشبيهات في هذه الموصوفات ما وجدته لأهل بلدي على كثرة ما سقط منها عن يدي بالغفلة التي ذكرتها عنها، وقلة التهمم بها، وعلى قرب عهد الأندلس بمنتحلي الإسلام، فكيف بمنتحلي الكلام، ولو تأخروا في إدراك المشرقيين في كل نحو وغرض، وتقهقروا عن لحاقهم في كل جوهر وعرض، لكانوا أحقاء بالتأخر، أحرياء بالتقهقر. فكيف يرى فضلهم وقد سبقوا في أحسن المعاني مجتلى، وأطيبها مجتنى، وهو الباب الذي تضمنه هذا الكتاب، فلهم فيه من الاختراع الفائق، والابتداع الرائق، وحسن التمثيل والتشبيه، ما لا يقوم أولئك مقامهم فيه. والفضل في هذا الصنع الجميل لذي الوزارتين القاضي الجليل المنقطع المثيل، ولابنه الحاجب الشهاب الثاقب نثره عباد، ورحمة الله على العباد مولي وسيدي أبقاهما الله ستراً علي. فهما اللذان أقامت مقعد الهمم يد اهتبالهما. وأمطرت أرض الفطن سماء أفضالهما، فدرت الدرر من تلك الفكر التي يسعيان لتحصين مرادهما وتحسين مرادهما.